كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: السبت الإقامة في المكان؛ فكأن السبات سكون مّا وثبوت عليه؛ فالنوم سُبَاتٌ على معنى أنه سكون عن الاضطراب والحركة.
وقال الخليل: السبات نوم ثقيل؛ أي جعلنا نومكم ثقيلًا ليكمل الإجمام والراحة.
الرابعة: قوله تعالى: {وَجَعَلَ النهار نُشُورًا} من الانتشار للمعاش؛ أي النهار سبب الإحياء للانتشار.
شبه اليقظة فيه بتطابق الإحياء مع الإماتة.
وكان عليه السلام إذا أصبح قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور».
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} تقدم في الأعراف مستوفى.
قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً طَهُورًا} فيه خمس عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {مَاءً طَهُورًا} يتطهر به؛ كما يقال: وضوء للماء الذي يتوضأ به.
وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهورًا.
فالطَّهور بفتح الطاء الاسم. وكذلك الوضوء والوقود. وبالضم المصدر، وهذا هو المعروف في اللغة؛ قاله ابن الأنباريّ.
فبيّن أن الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهِّر لغيره؛ فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر، وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهرًا مطهرًا.
وإلى هذا ذهب الجمهور.
وقيل: إن {طَهُورًا} بمعنى طاهر؛ وهو قول أبي حنيفة؛ وتعلق بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] يعني طاهرًا.
وبقول الشاعر:
خليليّ هل في نظرة بعد توبة ** أداوي بها قلبي عليّ فُجورُ

إلى رُجَّحِ الأكفالِ غِيدٍ من الظِّبا ** عِذاب الثنايا رِيقُهنَّ طَهُورُ

فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر.
وتقول العرب: رجل نئوم وليس ذلك بمعنى أنه منيم لغيره، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه.
ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا: وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب وعن خسائس الصفات كالغِل والحَسَد، فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب وأوضار الاعتقادات الذميمة، فجاءوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذٍ: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73].
ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته ورحمته في الآخرة.
وأما قول الشاعر:
رِيقُهُن طَهُورُ

فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية لعذوبته وتعلقه بالقلوب، وطيبه في النفوس، وسكون غليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية؛ فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حدّ الصدق إلى الكذب، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون.
ألا ترى إلى قول بعضهم:
ولو لم تُلامِسْ صفحةُ الأرضِ رجلَها ** لما كنتُ أدري عِلَّةً للتيمم

وهذا كفر صراح، نعوذ بالله منه.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا منتهى لباب كلام العلماء، وهو بالغ في فنِّه؛ إلا أني تأملت من طريق العربية فوجدت فيه مطلعًا مشرقًا، وهو أن بناء فعول للمبالغة، إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل المتعدّي كما قال الشاعر:
ضَروبٌ بنصل السيفِ سُوقَ سِمانها

وقد تكون في الفعل القاصر كما قال الشاعر:
نئوم الضُّحا لم تَنْتَطِقْ عن تَفَضُّلِ

وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ومن الشرع طهارة؛ كقوله عليه السلام: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» وأجمعت الأمة لغة وشريعة على أن وصف طهور يختص بالماء فلا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة؛ فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدّل دليل على أن الطهور هو المطهر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا كله وهو العبارة به عن الآلة للفعل لا عن الفعل كقولنا: وَقُود وسَحُور بفتح الفاء، فإنها عبارة عن الحطب والطعم المتسحر به؛ فوصف الماء بأنه طهور بفتح الطاء أيضًا يكون خبرًا عن الآلة التي يتطهر بها.
فإذا ضمت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبرًا عنه.
فثبت بهذا أن اسم الفعول بفتح الفاء يكون بناء للمبالغة ويكون خبرًا عن الآلة، وهو الذي خطر ببال الحنفية، ولكن قصرت أشداقها عن لَوْكِه، وبعد هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً طَهُورًا}.
وقوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطَهورًا» يحتمل المبالغة ويحتمل العبارة به عن الآلة؛ فلا حجة فيه لعلمائنا، لكن يبقى قوله: {لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] نص في أن فعله يتعدى إلى غيره.
الثانية: المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها، والمخالط للماء على ثلاثة أضرب: ضرب يوافقه في صفتيه جميعًا، فإذا خالطه فغيّره لم يسلبه وصفًا منهما لموافقته لهما وهو التراب.
والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فإذا خالطه فغيّره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير؛ كماء الورد وسائر الطاهرات.
والضرب الثالث يخالفه في الصفتين جميعًا، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعًا لمخالفته له فيهما وهو النجس.
الثالثة: ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، وأن الكثير لا يفسده إلا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات.
ولم يحدّوا بين القليل والكثير حدًّا يوقف عنده، إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في الجُنُب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب ولم يكن غسل ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء؛ وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم ومن اتبعهم من المصريين.
إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك.
وقولهم: ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه: أن الماء لا تفسده النجاسة الحالّة فيه قليلًا كان أو كثيرًا إلا أن تظهر فيه النجاسة وتغيّر منه طعمًا أو ريحًا أو لونًا.
وذكر أحمد بن المعدّل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء.
وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير وأبو الفرج الأبهرِي وسائر المنتحلين لمذهب مالك من البغداديين؛ وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن عليّ.
وهو مذهب أهل البصرة، وهو الصحيح في النظر وجيد الأثر.
وقال أبو حنيفة: إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته كثيرًا كان أو قليلًا إذا تحققت عموم النجاسة فيه.
ووجه تحققها عنده أن تقع مثلًا نقطة بول في بركة، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس.
وفي المجموعة نحو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي: بحديث القلتين، وهو حديث مطعون فيه؛ اختلف في إسناده ومتنه؛ أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدَّارَقُطْنِي، فإنه صدّر به كتابه وجمع طرقه.
قال ابن العربي: وقد رام الدَّارَقُطْنِي على إمامته أن يصحح حديث القلتين فلم يقدر.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين فمذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت في الأثر؛ لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، ولأن القلتين لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، فلو كان ذلك حدًّا لازمًا لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حدّ ما حدّه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من أصل دينهم وفرضهم، ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه، فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك وألطف.
قلت: وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدلّ على عدم التوقيف فيهما والتحديد.
وفي سنن الدَّارَقُطْنِي عن حماد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال: القِلال الخوابي العظام.
وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين.
ويظهر من قول الدَّارَقُطْنِي أنها مثل قِلال هَجَر؛ لسياقه حديث الإسراء عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما رفعت إلى سِدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قِلال هَجَرو ورقها مثل آذان الفيلة» وذكر الحديث.
قال ابن العربي: وتعلق علماؤنا بحديث أبي سعيد الخدري: في بئر بُضاعة، رواه النسائيّ والترمذي وأبو داود وغيرهم.
وهو أيضًا حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه.
وقد فاوضت الطوسي الأكبر في هذه المسألة فقال: إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك، فإن الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه؛ إذ لا حديث في الباب يعوّل عليه، وإنما المعوّل على ظاهر القرآن وهو قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً طَهُورًا} وهو ماء بصفاته، فإذا تغيّر عن شيء منها خرج عن الاسم لخروجه عن الصفة، ولذلك لما لم يجد البخاري إمام الحديث والفقه في الباب خبرًا يعوّل عليه قال: باب إذا تغير وصف الماء وأدخل الحديث الصحيح: «ما من أحد يُكلَم في سبيل الله والله أعلم بمن يُكلَم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يَثْعَب دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك» فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدم بحاله وعليه رائحة المسك، ولم تخرجه الرائحة عن صفة الدموية.
ولذلك قال علماؤنا: إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفه وساحله لم يمنع ذلك الوضوء منه.
ولو تغير بها وقد وضعت فيه لكان ذلك تنجيسًا له للمخالطة والأولى مجاورة لا تعويل عليها.
قلت: وقد استدلّ به أيضًا على نقيض ذلك، وهو أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله.
ووجه هذا الاستدلال أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثًا نجسًا، وأنه صار مسكًا؛ وإن المسك بعض دم الغزال.
فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته.
وإلى هذا التأويل ذهب الجمهور في الماء.
وإلى الأول ذهب عبد الملك.
قال أبو عمر: جعلوا الحكم للرائحة دون اللون، فكان الحكم لها فاستدلوا عليها في زعمهم بهذا الحديث.
وهذا لا يفهم منه معنى تسكن إليه النفس، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه، ولا يشتغل بمثل هذا الفقهاء، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله؛ وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، ولذلك أخذ الميثاق عليهم ليبيِّنُنه للناس ولا يكتمونه، والماء لا يخلو تغيّره بنجاسة أو بغير نجاسة، فإِن كان بنجاسة وتغير فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله.